﴿فَلَمۡ یَكُ یَنفَعُهُمۡ إِیمَـٰنُهُمۡ لَمَّا رَأَوۡا۟ بَأۡسَنَاۖ سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِی قَدۡ خَلَتۡ فِی عِبَادِهِۦۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ﴾ [غافر: ٨٥]
﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهم إيمانُهم لَمّا رَأوْا بَأْسَنا﴾ أيْ عِنْدَ رُؤْيَةِ عَذابِنا لِأنَّ الحِكْمَةَ الإلَهِيَّةَ قَضَتْ أنْ لا يُقْبَلَ مِثْلُ ذَلِكَ الإيمانِ، ( وإيمانُهم ) رُفِعَ بِيَكُ اسْمًا لَها أوْ فاعِلَ ( يَنْفَعُهم ) وفي ( يَكُ ) ضَمِيرُ الشَّأْنِ عَلى الخِلافِ الَّذِي في كانَ يَقُومُ زَيْدٌ، ودَخَلَ حَرْفُ النَّفْيِ عَلى الكَوْنِ لا عَلى النَّفْعِ لِإفادَةِ مَعْنى نَفْيِ الصِّحَّةِ فَكَأنَّهُ لَمْ يَصِحَّ ولَمْ يَسْتَقِمْ حِكْمَةُ نَفْعِ إيمانِهِمْ إيّاهم عِنْدَ رُؤْيَةِ العَذابِ، وها هُنا أرْبَعَةُ فاءاتٍ فاءُ ﴿فَما أغْنى﴾ وفاءُ ﴿فَلَمّا جاءَتْهُمْ﴾ وفاءُ ﴿فَلَمّا رَأوْا﴾ وفاءُ ﴿فَلَمْ يَكُ﴾ فالفاءُ الأُولى مِثْلُها في نَحْوِ قَوْلِكَ: رُزِقَ المالُ فَمَنَعَ المَعْرُوفَ فَما بَعْدَها نَتِيجَةٌ مالِيَّةٌ لِما كانُوا فِيهِ مِنَ التَّكاثُرِ بِالأمْوالِ والأوْلادِ والتَّمَتُّعِ بِالحُصُونِ ونَحْوِها، والثّانِيَةُ تَفْسِيرِيَّةٌ مِثْلُها في قَوْلِكَ: فَلَمْ يَحْسُنْ إلى الفُقَراءِ بَعْدُ فَمَنعُ المَعْرُوفِ في المِثالِ فَما بَعْدَها إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وحاقَ بِهِمْ﴾ إيضاحٌ لِذَلِكَ المُجْمَلِ وأنَّهُ كَيْفَ انْتَهى بِهِمُ الأمْرُ إلى عَكْسِ ما أمَّلُوهُ وأنَّهم كَيْفَ جَمَعُوا واحْتَشَدُوا وأوْسَعُوا في إطْفاءِ نُورِ اللَّهِ وكَيْفَ حاقَ المَكْرُ السَّيِّئُ بِأهْلِهِ إذْ كانَ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ( فَما أغْنى عَنْهم ) إيماءٌ بِأنَّهم زاوَلُوا أنْ يَجْعَلُوها مُغْنِيَةً، والثّالِثُ لِلتَّعْقِيبِ، وجَعْلَ ما بَعْدَها تابِعًا لِما قَبْلَها واقِعًا عَقِيبَهُ ﴿فَلَمّا رَأوْا بَأْسَنا﴾ مُتَرَتِّبٌ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ( فَلَمّا جاءَتْهم ) .. إلَخْ. تابِعٌ لَهُ لِأنَّهُ بِمَنزِلَةِ فَكَفَرُوا إلّا أنَّ ( فَلَمّا جاءَتْهم ) الآيَةَ بَيانُ كُفْرٍ مُفَصَّلٌ مُشْتَمِلٍ عَلى سُوءِ مُعامَلَتِهِمْ وكُفْرانِهِمْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعالى العُظْمى مِنَ الكِتابِ والرَّسُولِ فَكَأنَّهُ قِيلَ: فَكَفَرُوا فَلَمّا رَأوْا بَأْسَنا آمَنُوا، ومِثْلُها الفاءُ الرّابِعَةُ فَما بَعْدَها عَطْفٌ عَلى آمَنُوا دَلالَةً عَلى أنَّ عَدَمَ نَفْعِ إيمانِهِمْ ورَدِّهِ عَلَيْهِمْ تابِعٌ لِلْإيمانِ عِنْدَ رُؤْيَةِ العَذابِ كَأنَّهُ قِيلَ: فَلَمّا رَأوْا بَأْسَنا آمَنُوا فَلَمْ يَنْفَعْهم إيمانُهم إذِ النّافِعُ إيمانُ الِاخْتِيارِ ﴿سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ في عِبادِهِ﴾ أيْ سَنَّ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ أعْنِي عَدَمَ نَفْعِ الإيمانِ عِنْدَ رُؤْيَةِ البَأْسِ سَنَةً ماضِيَةً في البِعادِ، وهي مِنَ المَصادِرِ المُؤَكِّدَةِ كَوَعْدِ اللَّهِ وصِبْغَةِ اللَّهِ، وجُوِّزَ انْتِصابُها عَلى التَّحْذِيرِ أيِ احْذَرُوا يا أهْلَ مَكَّةَ سُنَّةَ اللَّهِ تَعالى في أعْداءِ الرُّسُلِ.
﴿وخَسِرَ هُنالِكَ الكافِرُونَ﴾ أيْ وقْتَ رُؤْيَتِهِمُ البَأْسَ عَلى أنَّهُ اسْمُ مَكانٍ قَدِ اسْتُعِيرَ لِلزَّمانِ كَما سَلَفَ آنِفًا، وهَذا الحُكْمُ خاصٌّ بِإيمانِ البَأْسِ وأمّا تَوْبَةُ البَأْسِ فَهي مَقْبُولَةٌ نافِعَةٌ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعالى وكَرَمِهِ، والفَرْقُ ظاهِرٌ. وعَنْ بَعْضِ الأكابِرِ أنَّ إيمانَ البَأْسِ مَقْبُولٌ أيْضًا ومَعْنى ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهم إيمانُهم لَمّا رَأوْا بَأْسَنا﴾ أنَّ نَفْسَ إيمانِهِمْ لَمْ يَنْفَعْهم وإنَّما نَفَعَهُمُ اللَّهُ تَعالى حَقِيقَةً بِهِ، ولا يَخْفى عَلَيْكَ حالُ هَذا التَّأْوِيلِ وما كانَ مِن ذَلِكَ القَبِيلِ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
روح المعاني — الآلوسي (١٢٧٠ هـ)