عَالِمٌ وشِاهِدٌ (2)
شَيخُنا أَبُو بَكْر الجَزَائريُّ...أَنْزَلَ اللهُ عَلَيكَ شَآبيبَ رَحْمَته ومَغْفرَته وَعَفوه
1 مَكَانَتُهُ عنْدَ الأَكَابر
شَهْرُ رَجَبَ عَامَ 1418ھ قَدِمَ المَدِينةَ النَّبَويةَ الشَيخُ ابنُ عُثيمين، ولَمْ يُدَرِّسْ فِي المسجدِ النَّبَويِّ أثناء زِيَارَتهُ -اسْتمرتْ لأيامٍ- إلاَّ عَلَى كُرْسِيِّ الشّيْخِ أبي بكر، وهَذِهِ عَادَتُهُ كُلَّمَا قَدِمَ المَدينةَ النَّبَوية ، وَفِي هَذَا تَشريفٌ واِعلاءٌ لِمَقَامِ الشيخ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِن العُلَماءِ المُبَرَزين إلاَّ وَهُوَ مَع الشَّيخِ كَذَلكَ، حَتَّى إنَّ الشَّيخَ ابنَ بَازٍ كَانَ يَسْألُ أَهلَ المَدينةِ عَنْ أَحْوالِهِم عَامَّةٍ ويَسْأَلُهُم عَن أَحوالِ الشَّيخِ خَاصةً .
وكَانَ مًحدثُ المَدينَة الشَّيخُ عَبْدُ المُحسن العَبَّاد يَنصَحُنا بالجُلوس إليه ، ويَقولُ : " لاَ يَنبَغي لطَالب الحَديث أَنْ يَسْتغنيَ عَن دُروس الشَّيخ أَبي بَكر في التَرغيب والتَرهيب والوَعْظ وتَرقيق القُلوب لأَنَّ دُروسَ الحَديثِ والمُصْطَلحِ وَالجَرحِ والتَعديلِ جَافةٌ فَلاَ تُليَّنُ القُلوبُ إلاَّ بمَجَالس القُرآن والذّكْر و الوَعْظ..."
وَفِي سَنة 1422ھ وفي إحْدَى الدَّورَات العلْمية بمَدينة الريَاض عَلمَ بَعضُ المَشَايخ أَنَّني جَزَائريٌّ مًقيمٌ بالمَدينة النًّبَوية، فكانَ أَول حديثهم السُؤال عَن أَحوال الشَّيخ وَصحَته، كَانَ من هَؤلاء العَلاَّمةً ابنُ جبرين والعَلاَّمةً بَكر أبو زيد.
وزَامَلَ الشيخَ الأَلبَاني زَمَنَ تَدْريسه بالجَامعَة الإسْلاَمية ، وكَانَ بينَهُمَا مُسَاجَلَةٌ علْميَّةٌ حَولَ الاسْتدْلاَل بالحَديث الضَّعيف في فَضَائل الأَعْمَال لاسيمَا في دُروس الوَعْظ والرَقَائق، وكَانَ لكُل وَاحد منْهُمَا رَأْيُهُ مَعَ بَقَاء المَودَة والائتلاف بَينَهُمَا عَلَى مَا سَمعْتُهُ من شَيخنَا عَبْدُ المُحْسن العَبَّاد.
2 دفَاعُ الأَكَابرعَن عرضه
في عَام 1420ھ وفي بَيت الشَّيخ عَبد المُحْسنِ، نَقَلَ لَهُ أَحَدُهُم مَا قيلَ في مَثَالبِ الشَّيخِ أبِي بَكرٍ، ومنْهَا مَوَاقفُه من بَعض الأَفْرَاد والجَمَاعَات، فَدَافَعَ عَنْه دفَاعًا كَبيرًا، وَذَكَر بَعضَ مَنَاقبه، وَأَغلظَ القَولَ للسَّائل، وممَّا قَالَه يومَهَا:" كُفُّوا أَلسنَتَكُم عَنْهُ، ألاَ تَسْتَحُونَ؟ إنَّني لمَّا قَدمتُ الَمدينة عَامَ 1372ھ وَجَدتُه يُدَرِّسُ بالمَسْجد النَّبويّ..."
عَامُ 1372 ھ هو العَامُ الذي قَدمَ فيه الشَّيخُ أبُو بكر المَدينةَ وَبعدهَا بسَنَتين تَحصَّلَ عَلَى إجَازةٍ من رئَاسَةِ القُضَاةِ بمَكَةَ المُكرَّمة للتدْريس بالمَسْجد النَّبويِّ، فَلَا أَدْري مَا وجهُ مَا ذَكَرَهُ شَيخُنا إلاَّ أَن يَكُونَ قَدْ قَصَدَ أنَّ الشَّيخ أبَا بَكرٍ دَرَّسَ في المَسْجد النَّبوي بصفَة غير رَسْمية قَبْلَ حُصُوله عَلَى الإجَازة والله أعلم.
وفي سَنَة 1423ھ أَصَرَّ عُلَمَاءُ ومَشَايخُ كُلية الحَديث الشَّريف يَتَقَدَمُهم شَيخُنَا العلاَّمةُ محمَّد ضياء الرحمن الأعظمي عَلَى إدْخَال أَحَد الطُلاَّب المَجْلس التَّأديبيَ لتطَاوله عَلَى الشَّيخ أَبي بَكْر، فَكَانَ في مَوقِفِهِم ذَبٌ عَن عِرضِ الشَّيخِ وزَجْرٌ لِكُلِ مَن سَوَّلتْ لَهُ نَفسُهُ الطَّعنَ في العُلَمَاءِ الأَجِلاَءِ.
3 حَيَاتُه تَعْليمٌ ودَعْوَةٌ
كَانَ الشَّيخُ امْتدادًا لكَوكَبَةٍ مِنَ عُلَماءِ الجَزائِرِ الذينَ دَرَّسُوا بالمَسْجد الحَرام والمَسْجد النّبويّ، فَقَد دَرَّسَ الشَّيخُ أّبُو بَكْرٍ فِي المَسْجد النّبويِّ أَكْثَرَ مِن ستّينَ عَامًا فًكَانَ بذلك أَقْدَمَ المُدرسينَ فيه.
وسَمعتُه مَرةً يَقُولُ: " مَنَعُوني منَ التدريس مُدةً من الزَّمَانِ، فكُنتُ أَقُولُ لَهُم: إنَّ الدَّعوةَ إلَى الله حَياتِي ولَنْ يَهْنَأَ لِي عَيشٌ مِن دُونهَا، وَإذَا أَرَدْتُم مِنِّي مَالاً أَعطيتُكُم إيَّاهُ"
وَعَمِلَ أُسْتَاذًا فِي الجَامِعَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ لٍأَكثَر مِن رُبْعِ قَرْنٍ إِلَى أَنْ أُحيلَ عَلَى التَقَاعُدِ، وَكَانَ يُسَافرُ إلَى مُختلَف البُلْدَان مُعلمًا ومربيًا وناصحًا، وألَّفَ كُتُبًا كَثيرةً في العَقيدةِ والفقْهِ والتَّفْسيرِ والحَديثِ والسيرَةِ والدَّعْوَةِ والرَّدِ عَلَى المُخَالفينَ عَلَى طَريقَةِ أَهْل السُنَّة، وكَيفَ لاَ يَكُونُ كَذلكَ وهُوَ أَحدُ خريجيّ المَدْرَسَة البَاديسيَة الإصْلاَحية التّي كَانت تُعْنَى بمَسَائل التَّوحيد والسُنَّة ونَبْذ الشّركيَات والبدَعَ والخُرَافَات، فَهُو الذي أَسَّسَ في الجَزَائر إبَّانَ الإسْتدمَار الفرَنْسيَّ جَريدَةَ "مرآة التلميذ" ثم جريدة "الدعوة" والتي كان شعارها "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين" ثم جريدة "اللواء"
ولمَّا مَنَعَتْ السُلُطَاتُ الفِرنْسِيةُ صُدُورَ الجَرائدِ السَّابِقَةِ جَريدةً بعد أُخرى، انْضَمَ إلَى أُسْرةِ تَحريرِ جَريدةِ "القَبَسِ" وَكَانَ قد أسس قَبْلَهَا جَمَاعَةَ " الشَبَاب المُوحدينَ" التِّي كانَ يَهدفُ مِن خِلالها إلى إخَرَاج الشَّبابِ الجَزَائِريِّ من ربْقَة الجَهْلِ والبِدَعِ والخُرَافَاتِ، وَأَسَسَ مَطْبَعَةَ "الدعوة" لِطِبَاعَةِ الجَرَائِدِ والكُتُبِ بِمَالِهِ الخَاص، فنَحسَبُ الشَّيخَ -واللهُ حَسِيبهُ- أَنَّهُ كَانَ مِمّن جَاهَدَ فِي سَبيلِ اللهِ بِنفسِهِ ومَالِهِ وعلمِه وَقَلَمِهِ.
4 عَلَى خُطَى عُلَمَاءِ الجَمْعِيةِ
1419ھ زَارَ جَمَاعَةٌ مِن عُلَمَاءِ مُوريتَانيا والسُودَان الشَّيخِ أَبِا بَكرٍ ِفي بيته، فَأَثنَوا خَيرًا عَلَى أُسلوبِهِ فِي التَّدريسِ، فَقَاطَعَهُم قَائلاً: " أَستغفرُ اللهَ ،أَستغفرُ اللهَ، لَو سَمعتُمْ دُروسَ الشَّيخِ الطَّيب العُقْبِي كَمَا سَمِعتُهَا أَنَا ـ وَقَدْ لاَزَمَهُ سِتَةَ أَعْوَامٍ أَوَ تَزيدُ ـ لَقُلتُمْ إِنَّهُ لاَ أَفْضَلَ مِنهُ تَعليمًا وَتَدريسًا وتَربيةً " وَمِن مَشَايخِهِ أَيْضًا العَلاَّمَةُ أَبُو يَعْلَى الزَّوَاوِيُّ، وكَانتْ لَهُ عِندَهُ حَظْوَةٌ ومَكَانَةٌ، وقَدَّمَ لَهُ كِتَابَهُ "الضَّرُوَراتُ الفِقهيةُ رسالةٌ في الفقْه المَالكيّ "
5 خَصِيصةٌ بَينَهُ وَبينَ اللهِ
وَضَعَ اللهُ للشّيخِ القَبَولَ فِي الأرضِ ، فَقدْ رَأيتُ الحُجَاجَ والمُعتمرينَ والزُّوارَ مِن شَتَّى بِقَاعِ الأَرضِ عَربًا وعَجمًا يَسألَونَ عَن دَرسِهِ، وَهَذَا لَمْ أَرَهُ لِغيرهِ إلاَّ للشيخينِ ابنَ بَازٍ والعُثيمين، فَكاَنَ دَرسُهُ فِي المَسْجِدِ النَّبَويِّ الأَكبَر عَلَى الإِطلاقِ ، وإنَّمَا قُلتُ هِيَ خَصيصةٌ بَينَهُ وبَينَ اللهِ ؛ لأنَّ كَلاَمَ الشَيخِ سَهْلٌ سَلسلٌ يُحسِنُهُ غَيرهُ، فَكأنَّ اللهَ اختَاَرهُ -والله أعلم- دُونَ غَيرهِ مِنَ المُدرسِينَ لِيكونَ لَهُ هَذَا القَبَول، ومَا مِن أَحَدٍ يَرَاهُ أَو يَجْلسُ مَجْلِسَهُ إلاَّ ويَرتَاحُ لِسَماعِ حَديثِهِ،ولَعلَ في انْتشَار كُتُبه وتَلَقي النَّاس لَهَا بالقَبُول اشارَة إلى هذا المَعْنَى فكِتَابُ " أَيسر التَفَاسِيرِ" و"مِنْهَاج المُسلِمِ" و"عَقيدة المُؤمنِ" وغَيرهَا مِمَّا دَرَجَ المُسلمونَ فِي شَتَى بقَاع المَعْمُرَة عَلَى قِراءَتِهَا وشَرحِهَا فِي مَسَاجِدِهِم ومَدَارِسِهِم وبُيوتِهِم، وكُنتُ وَاحدًا مِن هَؤُلاَءِ الذينَ تَربَّوا عَلَى كُتُبِه، وَأذكرُ أنَّنَي شَارَكتُ فِي إِحْدَى المُسَابَقَاتِ المَسْجِدِيةِ وَأَنَا صَغَيرٌ، وَكَانَ مَوْضُوعُهَا تَلْخِيصُ بَابٍ مِن أَبْوَابِ "مِنهاج المُسْلِم" .
ومِن بَرَكَاتِ الشَيخِ الدَّعَويةِ أنَّهُ كَانَ صَاحِبَ نَظرَةٍ إِبْدِاعِيةٍ فَهُوَ الذي اقَترحَ وَأَسهَمَ فِي تأسيسِ كَثيرٍ مِنَ الصُّروحِ العِلميةِ والدَّعَويةِ كَرَابِطَةِ العَالَمَ الإِسلاَمِي وإِذَاعَةُ القُرآنِ الكَريمِ والجَامِعَةِ الإِسلاَميةِ وكلية القُرآنِ الكَريمِ عَلَى وَجْهِ الخُصُوصِ...
وَكُنَّا نَقُولُ: " سَريرةُ الشَيخِ بَيضَاء نَقيةٌ بَيَاضَ وَجْههِ وَلِحيَتِهِ " بَلْ لَمْ أَرَهُ قَطُّ فِي غَيرِ الثِيابِ البِيضِ ، فكَانَ إذَا رَآهُ النَّاسُ جَالِسًا عَلَى كُرسِي التَدْريسِ قالوا كَأنَّنا نَنْظُرُ إلى النُّور يَشِعُ مِنْهُ رَحِمَهُ اللهُ.
6 أَفضلُ أُسلوبٍ لِلوعظِ
أُسْلُوبُهُ مِن أِحسنِ مَا رَأيتُ فِي خِطَابِ العَامّةِ، لمَا لَهُ منْ قُوةٌ عَجيبةٌ فِي التَأثيرِ عَليهمْ، أُسلوبٌ مُشوقٌ يَجعلُ المُستمعَ مَشدودًا إِليهِ وإِنْ طَالَ حَديثُهُ، وَكَاَنَ يَخُصُ أَهلَ الجَزائِرِ أَوقاتَ المَواسمِ بِالنُّصحِ فَينهاهُمْ عَن الشِركياتِ والمُحرماتِ، ويُحذرُ الرِّجَالَ مِن التِبغِ والدُّخانِ ويُحذرُ النِّساءَ مِن التَبرجِ والسُفورِ.
وَكَانَ الشَيخُ يَبدأُ دَرسَ التَفسيرِ بِتلاوةِ الآيَاتِ القُرآنيةِ، ثمَّ يُفسرهَا تَفسيرًا مُتوسطًا بَينَ الإِيجازِ والإِطنابِ والاِختصارِ والإِسهابِ ثُمَّ في خِتامِ الدَرسِ يَأمرُ الحُضورَ أَنْ يَستمعُوا مَرةً أَخرَى إِلَى تِلاَوةِ الآياتِ ويقول: " استمعُوا للآياتِ وتَذكَرُوا مَا كُنّا نَقولُهُ فِي تَفسيرهَا " فَكنَّا نَستشعرُ خِطَابَ اللهِ للمؤْمنينَ وكَأنَّهُ أُنزلَ عَلينَا لَيلتَهَا فَكَانَ لِذلكَ أَكبر المُعينِ عَلَى تَدبرِ القُرآنِ الكَريمِ.
7 مَجَالِسُهُ لاَ تَخْلُو مِنْ دُعَابَةٍ
كَانَ يُمازحُ السَّائلينَ إِذَا وَردهُ سُؤالٌ فِيهِ غَرابةٌ أَو نَكارةٌ فَيقولُ : " هَذَا بُهلولٌ يَسألُ وَيقولُ..." وَأكثرَ مَرةً مِنْ ذِكرهَا فِي مَجلسهِ فَلمَّا وَردهُ سُؤالٌ مِنْ اِمرأةٍ عَنْ حُكمِ الحِجابِ وأَنَّه لَيسَ بِواجِبٍ قَالَ : "هذه بُهلولةٌ تَسألُ وَتقولُ..." وَكَانَ كُلمَا رَآى مِنَ النَّاسِ تَعجبًا مِنْ تَرديدهِ لِكلمةِ " بُهْلُول" يُبادرُ إِلَى ذِكرِ مَعناهَا فِي اللُّغةِ وَأَنَّهُ يُقصدُ بِهَا الذَكِي الفَطِنُ لاَ مَا يَتبادرُ إِلَى الأَذهانِ مِنْ مَعانِي الغَباءِ والسَذاجةِ... وَنحْو هِذهِ الدُّعاباتِ التِّي كَانَ يَقصدُ بِهَا إِدخالُ السُرورِ والفَرحِ إِلَى قُلوبُ مُستمعيهِ.
8 اهْتِمَامُهُ بِأَحوالِ المُسلمينَ
قَدِمتُ المَدَينَةَ النَّبَويةَ ومَازالتِ الجَزَائِرُ تَئِنُّ تَحتَ وَطْأةِ الفِتنةِ العِمياءِ، فَكانَ الشَيخُ مُهتمًا لأَحوالِ بَلدهِ، وقلَّ دَرسٌ مِن دُروسِهِ لاَ يُعرجُ عَلَى ذِكرِ تِلكَ الأَحداثِ الدَّاميةِ مُبينًا الأَساليبَ الشَرعيةَ للُخروجِ مِنهَا، كَمَا كَانَ مُهتمًا بِأَحوالِ المُسلمينَ المُستضعفينَ فِي العَالَمِ، ويُسمِّي بُلدانَهُمْ وَيَدعُو لَهُمْ بِالاجتماعِ عَلَى التَوحيدِ والسُنَّةِ، وَكَتبَ فِي الرَدِّ عَلَى أَعداءِ الأُمَّةِ من العِلمانيينَ والإِشتراكيينَ والمَلاحدَة كُتُبًا وَرَسائِلَ كَثيرة، وَكَتبَ فِي السِياسةِ الشَرعيةِ كِتابَهُ " الدَّولةُ الإِسلاَميةُ " وَعَارضَ الإِشتراكيةَ الحَاكِمَةَ فِي الجَزَائِرِ بَعدَ الاسْتقلالِ ولذلكَ مُنِعَ مِنَ الَتدريسِ في مَسَاجِدِهَا .
وبِالمُقَابلِ كَانَ يُناصرُ كُلَ الدَّعواتِ الاصْلاَحيةِ فِي العَالَمِ، وَسَمعتُهُ مِرارًا يُسَمِّي مِنهَا -وَذكرها فِي بَعضِ كُتبِهِ- دَعوة الأَلبَاني فِي الشَامِ وَتَقي الدِّينِ الهِلاَلِيَّ فِي المَغْربِ والسَلفيينَ وصِدِّيق حَسَن خَان فِي الهِند.
09 دَمَاثَةُ أَخْلاَقِهِ وَتَوَاضِعِهِ
فِي زِياراتِي للشَيخِ فِي بَيتهِ كَانَ يَظهرُ لِي مَا كَانَ عَليهِ مِنْ كَثرةِ الذِّكرِ والنُّصحِ للهِ ورَسولهِ، مَعَ دَماثةِ الأَخلاقِ وَحُسنُ التَّعاملِ وكَمالِ التَّواضعِ حَيثُ كَانَ إِذَا رَآنَا - نَحْنُ أَهل الجَزائرِ- خَصنَا بِالسلامِ وَالتحيةِ والسُؤالِ.
وَكانَ يُقدمُ الشَايَ لِضيوفهِ بِنفسهِ، وأَذكرُ مَرةً أَنَّ بَعضَ ضُيوفهِ مِنْ أَهلِ الخَليجِ تَعجبَ مِنْ طَريقتهِ فِي صَبِ الشَايِ،لأَنَّهُ كَانَ يَرفعُ الإِبريقَ عَاليًا لِتظهرَ تِلكَ الرَغْوَةُ عَلَى الفِنجانِ ، فَلمَّا سُئلَ عَن ذلكَ ابْتسمَ وَقالَ : " شَايْ بِلاَ تَاجْ ... مَا يَحْتَاجْ "
10 إِعَانَتُهُ للمُحتاجينَ
كَانتَ يَدُ الشَيخِ بَيضاءَ عَلَى الجَميعِ، فَلمْ يَكنْ يَردُّ مَنْ سَألهُ مَالاً أَو مَتاعًا أَو شَفاعةً، وَأذكرُ مَرةً أَنَّ جَريدةَ "المَدينةِ" نَشرتْ مَقالاً مُطولاً عَنْ كَفالةِ الشّيخِ لِلفقراءِ خَاصةً طَلبةَ العِلمِ دَاخلَ المَدينةِ وَخارجهَا، وَرَووا فِيهِ عن الشيخ من السَخاء والكَرَم عجائب ونوادر جعلها الله في ميزان حسناته.
11 صَبرهُ عَلَى الأَذَي ورَحمتُهُ ورفقُه بِمُخَالِفيهِ
لَمْ أَسمعَ الشَيخَ يَذكرُ مُخالفيهِ فِي مِجلسٍ عَامٍ أَو خَاصٍ, إِلاَّ وأَشهدنَا أَنَّهُ قَدْ عَفَى عَنهُمْ، بَلْ وَيختِمُ حَديثهُ بِالدعاءِ لَهُمْ.
عام 1418 وفِي المَسجدِ النَّبويِّ، قرأَ مِنْ أَوراقِ أرسلت لَهُ جَمعَ فِيهَا كَاتبُهَا مَجموعةٌ اتهاماتٍ للشَيخِ بِأسلوبٍ فَض وغَليظ، خَرجَ بِهِ صَحابُهُ مِنْ النَّقدِ العِلميِ إِلَى السِبَابِ والشَتائمِ، رَدَّ الشَيخُ تِلكَ الاتهاماتِ مَع َمُحافظَته عَلَى هُدوءِهِ وَرزانتِهِ ثُمَّ قَالَ: " هَل يَحقُ لِي الآنَ أَنْ أَدعُوَ عَلَى كَاتِبها؟" وردَّدهَا مَرَات ثم قال: " إنّي دَاعٍ فَأَمِّنُوا " ورَفعَ يَديهٍ وَقَالَ: " اللَّهَمَ اغْفِرِ لِكاتبِ هَذهِ الأَوراقِ " فَكانَ هَذَا المَوقفُ دَرسًا لِلحضورِ فِي سَعةِ الحِلمِ والعَفوِ.
وَكَانَ لَهُ مَع أَهلِ الِبدعَ والأَهواءِ صَولاتٌ وجَولاتٌ، وكَتبَ فِي الرَدِّ عَلَى الرَوافضِ والقُبوريينَ والصُوفيينَ وأَهلُ التَوسلِ بِالصالحينَ والاحتفال بالمَوالدِ ،حَتَى سَعَى هُؤلاءِ وغَيرهُمْ - كَمَا هُو حَال أَهلِ البَاطلِ قَديمًا وحَديثًا- إِلَى إِسكاتِهِ بِتهديدهِ بِالقَتلِ تَارةً، وبالتضييقِ عَليهِ في دُروسِهِ تَارةً أَخرى، ولَكنَّ الشَيخَ كَانَ جَلدًا قَويًا صَابرًا مُحتسبًا الأَجَر عِندَ اللهِ ،وَاقرأ رَدهُ عَلى بَعضِ مُناوئيهِ في كُتبهِ ورَسَائله ، ومنهَا كِتابهُ "وجَاءُوا يَركضُونَ مَهلاً يَا دُعاةَ الضَّلالةِ" سَتجدِ حِينهاَ تَصديقَ مَا ادَّعيتُهُ.
12 أَنَا حَسنةٌ مِنْ حَسَناتِهِ
لَمَّا قَدَّمتُ مِلَفِي للالتحاقِ بالجامعةِ الإِسلاميةِ، لَمْ يكنْ فيهِ غَير تزكيتينِ مِنْ طَالبينِ فِي مَرحَلةِ الدِّراساتِ العُليَا، فَقالَ لِي أَحدُهُمَا: " لابدَ أَنْ تَدعمَ مِلفكَ بِتزكيةِ شَيخٍ مِن المَشايخِ" ثُمَّ قَدمَني للشَيخِ مُعَرفًا بِي وَأَنني أَحملُ شهادةً جَامعيةَ فِي أُصولِ الفِقهِ، وأَنني مُشتغلٌ بِالدعوةِ فِي الجَزائرِ، فَصارَ الشَيخُ يَنظرُ إِليَّ مرةً وإلى المُتكلمِ مرةً، وقَالَ متعجّبًا : " وأنتَ في هَذهُ السِن؟ " فقلتُ: "التحَقتُ بِالمدارسِ قَبلَ سِنِ التَمدرسِ الرَسميَ فربحتُ أعوامًا فِي مِشواري الدِراسي" فَقالَ لِي : "هَل أُناديكَ بالشيخ الشابِ أَو بِالشابِ الشَيخِ ؟" فقلتُ: "العفو شيخنا واللهِ مَازلتُ إِلى الآنِ أبحثُ عن سُلمَ طَلبِ العِلمِ" فقالَ:" سَجِّل في كُليةِ الدَّعوةِ " فسكتُ حياءً من الشَيخِ ، فقالَ لَهُ مُرافقي:" يَا شيخُ هَذا طَالبُ حديثٍ ،شَرحَ البيقونيةَ وأَلفيةَ السُيوطِي وهو في الجزائر، فمَقصدهُ كُليةَ الحديثِ الشَريف والدراسات الإسلامية لِيجمعَ بينَ أُصول الفقهِ وأُصول الحديثِ " ، فنظرَ إليَّ الشَيخُ نظرةً لَنْ أَنساهَا فكَأنّهُ كَان يُفكرُ في شيئٍ مَا، وَظننتُ حِينهَا أَنَّهُ سَيرفضنِي لِهذَا السَببِ، وَلكنهُ ابتسمَ أخيرًا وقَال: "سَأدعمكَ، ولكنْ بشرطِ ألاَّ تَبقَى في المَدينةِ النَّبويةِ بَعدَ نَهايةِ الدِراسةِ، ارجع إلى أَهل بَلدكَ وعلِّمهم مَا تعلمت..." فَقلتُ : "نَعم أَعدكم بذلكَ " ثُمَّ أنفذتُ شَرطهُ... وُعدتُ إليهِ بَعد سَنواتٍ ،فَكررَ َتزكيتَهُ لِي فَجزاه الله خيرا.
ولستُ ممَّن تَستهويهِ فِكرةُ نَشرِ التَزكياتِ والإِجازاتِ، ولكنني أُصرُ اليومَ عَلَى نَشرِ الَتزكيةِ الثَانيةِ للشيخِ، لِمناسبةِ المَقامِ أولاً ووفاءً واعترافًا بالجَميلِ ثانيًا.
13 جَنازَةٌ مَشْهودَةٌ.
شَهدهَا العُلماءُ والأئمَّةَ ُوطَلبةُ العلمِ والأَفاضلُ وعُمومُ المسلمينَ وعلى رأسهم، مَحدثُ المدينةِ الشَيخُ عَبدُ المُحسن، والمُدرسونَ في المَسجدِ النَّبوي وأَئمّتُهُ...
فَنالَ فِي حَياتِهِ وبَعدَ مَماتهِ من دُعاءِ الخَيّرينَ لَهُ بالرحمةِ مَا اللهُ بِهِ عليمٌ، والجَزاءُ من جنْس العَمَل، نَحْسَبُهُ -واللُه حَسيبُهُ- أَنَّهُ من أَهْلِ الرَحمةِ ، لأَنَّ أَهلَ العِلمِ هُمْ أَهلُهَا أَصلاً ومَوردًا، فالعِلمُ والرحمةُ صِنوانِ لاَ يَنفكانِ، ألاَ تَرى أَنَّ اللهَ لَم يَذكرِ الخِضْر ﷺ بِاسمهِ ولكنْ ذَكرهُ بِوصفهِ فَقالَ جَامعًا لَهُ بَينَ الرَحمةِ وَالعِلمِ ﴿ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ﴾ وفِي تقديمِ ذِكرِ الرحمةِ على العلمِ دلالةٌ واضحةٌ في الحَثِ عَلى مَزيدِ الاهتمامِ بِهَا "وهو سبحانه يقرن بين سَعَة العلْم والرَحْمَة كَمَا يَقْرنُ بينَ العلْم والحلْم فَمنَ الأَول قُولُهُ: ﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً﴾ ومنَ الثاني: ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴾ فَمَا قُرنَ شَيءٌ إلى شَيء أَحسن من حلْم إلى علْم ومنْ رَحمة إلى علْم " بدائع الفوائد 80-1
فالرحمةُ وَليدةُ العِلمِ غَالبًا، وصَاحبُ العِلمِ يَنظرُ إِلَى المُخالِفِ والمُوافقِ نَظرةَ الرحمةِ قَبلَ نظرةِ التكليفِ، فِإن لم يَكن كَذلكَ عُلمَ حينهَا أَنَّهُ لَم يُصبِ العِلمِ المَمْدُوحِ في الكِتابِ والسُنَّةِ، وأَزَّهُ ذلكَ على التَجني عَلى المُخالفينَ أزًا ودَفَعَهُ إلى التَسلَّطِ عَلَى المُنَاوئينَ دَفْعًا ، وكَانَ سَعيهُ حينئذٍ وَبالاً عَليهِ في الدُّنيَا والآخرةِ.
ويَلزمُني هنا أن أُذَكِّرَ إخواني بمَنهجِ أَهلِ الحَديثِ فِي الروايةِ والتَّعليمِ وأَنَّهم كَانوا يَبدأوُنَ مَجالسهُمْ بروايةِ حديثِ «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ» وهُوَ المَعْرَوفُ عندَ أهلِ الصَنعةِ الحديثيةِ بالمُسلسلِ بالأَوليةِ، وَمَنهجُ السَّلَف في العَقيدَة والدَّعْوة والتَعْليم أَعلمُ وأَحكمُ وأَسلمُ
" ولمَّا كَانَ نَصيبُ كُلِ عَبدٍ مِن الرَحمةِ عَلى قَدرِ نَصيبهِ من الهُدَى كَانَ أَكملَ المؤمنينَ إيمانًا أَعظمهمْ رحمةً، كَمَا قَال تَعالَى فِى أَصحابِ رَسولهِ ﷺ : ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ على الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ﴾ وكَانَ الصِّديقُ من أَرحمِ الأُمَّةِ، وقَد قال النبى ﷺ : « أرحم أمتى بأمتى أبو بكر» رواهُ الترمذىُّ، وكَانَ أَعلمَ الصَّحابةِ باتفاقٍ ، كَمَا قال أَبُو سَعيدٍ الخُدرى في الصَحيحينِ « وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ » يعنى النبى ﷺ ،فَجمعَ اللهُ لَهُ بَينَ سَعةِ العِلمِ والرَحمةِ." إغاثة اللهفان 173-2 بتصرف
وهَكذَا الرَّجلُ كُلمَا اتسعَ عِلمهُ اتسعتْ رَحمتُهُ، ولذلكَ كَانَ الأَنبياءُ أَوسع النَّاسِ رَحمةً، قَالَ تَعالَى في حَقِ زَكريا ﷺ: ﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾ وقال في حَقِ مُوسَى ﷺ: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا﴾ وقَالَ في حَقِ إِبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ عَليهم الصَّلاةُ والسَّلاَمُ: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾
وبَعدَ مَا ذَكرتُهُ آنفًا يَحقُ لي في هَذا المَقام أَنْ أُوجهَ خطَابي لشَباب ضَلَّ طَريقَ الحَق فَحسبَ أنَّ مَنهجَ أَهل السُنَّة يُحَرّجُ عليهمْ الترحمَ عَلى كُل مُخالف لهم، فأقول لَهُم وأنا مُحبٌ لَهُمْ ومُشفقٌ عليهم:
أَلاَ أَيُّهَا الشَّبَابُ إنَّكُم تَبتعدونَ عَن جَماعة الحَقّ شَيئا فشيئًا ويومًا بَعدَ يَوم فَإنْ لَم تَأخذُوا بالتنظير والتَقعيد فلاَ أقل من أَنْ تَنظُروا إلى شُذوذكُمْ عَن أُمَّة رَسول الله ﷺ شرقًا وغربًا في التَرحُم عَلَى الشَيخ ، بَل رأيتُ بَعضكُمْ وقَدْ نَشَرَ مَثَالبَهُ يَومَ وَفَاته ، وهَذَا والله صَنيعٌ سيئٌ أَهيبُ بكُم ألاَّ تَعودوا لمثله أبدًا، وهي مثالبُ قيلَتْ قَديمًا زَمنَ حياة الأكابر، أَفَلاَ يَسَعُكُمْ مَا وَسعَهُمْ؟
أَلاَ أيُّهَا الشَبابُ تَريثُوا وتَأمَّلُوا وتَدبروُا ولاَ تَستعجلُوا في نسبة كَثير من أَقوالكُمْ وأَفعالكُمْ إلى مَنهج أَهل السُنَّة خَاصَّةً في أَبواب مُعاملة المُخالف والحُكم عَليه.
ولأَنَّ شَهادتي هُنا عَن رَحمة أَهل العلْم فَسأُنهيهَا بالرَحمة كَمَا بَدأتُهَا بالرَحمة فَأقولُ:
شَيخُنَا أَبُو بَكْر الجَزَائريّ...أَنْزَلَ اللهُ عَلَيكَ شَآبيبَ رَحْمَته ومَغْفرَته وَعَفوه.
كتبها أبو الفضل خالد بن علي بن شريف أوصيف الجزائري المدني